فصل: من لطائف القشيري في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآيتين:

قال عليه الرحمة:
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)}.
هذا الخطاب لو كان بين المخلوقين لكان شكوى. والشكوى إلى الأولياء من الأعداء سُنَّةُ الأحباب.
ويقال علم أن في المؤمنين مَنْ يغتاب الناس، وذلك قبيح من قالتهم، فَأَظْهَرَ قُبْحًا فوق ذلك ليتصاغر قبح قول المؤمنين بالإضافة إلى قبح قول الكفار، فكأنه قال: لئن قبحت قالتهم في الاغتياب فأقبحُ من قولهم قولُ الكفار حيث قالوا في وصفنا ما لا يليق بنعمتنا.
وفيه أيضا إشارة إلى الدعاء إلى الخَلْق، والتجاوز عن الخَصْم، فإن الله سبحانه لم يسلبهم ما أولاهم مع قبيح ما ارتكبوه من التقصير في حقوقه.
قوله: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا}: هذه الكلمة من موجبات الخجلة لأهل التقصير بأدقّ إشارة؛ يعني أنهم وإنْ نَسُوا أحوالهم وأقوالَهم فإنا ننشر لهم ما كتبنا عليهم قال قائلهم:
صحائفُ عِنْدِي للعِتاب طويتها ** سَتُنْشَرُ يومًا والعتابُ يطولُ

سأصبر حتى يجمع الله بيننا ** فإنْ نلتقِ يومًا فسوف أقول

قوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ للعَبِيدِ} هذا لو كان من مخلوقٍ مع مخلوق لأشبه العذر مما عمله به، فكأنه سبحانه يقول: «عبدي: هذا الذي تلقاه- اليوم- من العقوبة لأن الذنب لك، ولو لم تفعله لما عذَّبنُك». اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أي: يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا وتحقيرًا وتصغيرًا، بسبب هتكهم حرمة الله، وحرمة كلامه وأنبيائه المبلغين له.
لطائف:
الأولى:
إيراد صيغة الجمع في الآية مع كون القائل واحدًا، كما روي، لرضا الباقين بذلك، ونظائره في التنزيل كثيرة.
الثانية:
إضافة عذاب الحريق بيانية، أي: العذاب الذي هو الحريق.
الثالثة:
الذوق إدراك الطعوم، ثم اتسع فيه لإدراك سائر المحسوسات والحالات، وذكره هاهنا، لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل، والتهالك على المال، وغالب حاجة الْإِنْسَاْن إليها لتحصيل المطاعم، ومعظم بخله به للخوف من فقدانه، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال- أفاده البيضاوي-.
الرابعة:
تقديم الأيدي عملها، لأن من يعمل شيئًا يقدمه، والتعبير بالأيدي عن الأنفس من حيث أن عامة أفاعيلها إنما تزاول بهنّ، فهو من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار جلّ العمل عليه.
الخامسة:
إن قيل: ظلاّم صيغة مبالغة من الظلم، تفيد الكثير، ولا يلزم من نفي الظلم الكثير نفي الظلم القليل، فلو قيل: بظالم، لكان أدل على نفي الظلم قليله وكثيره!. فالجواب عنه من أوجه:
أحدها:
أن الصيغة للنسب من قبيل بزّاز وعطّار لا للمبالغة، والمعنى: لا ينسب إلى الظلم.
الثاني:
أن فعالًا قد جاء. لا يراد به الكثرة، كقوله طرفة:
ولستُ بحلاَّل التِّلاعِ مخافةً ** ولكن متى يَسْتَرفِدِ القومُ أرفِدِ

لا يريد هاهنا أنه قد يحل التلاع قليلًا، لأن ذلك يدفعه قوله: متى يسترفد القوم أرفد. وهذا يدل على نفي البخل في كل حال، ولأن تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة.
والثالث:
أن المبالغة لرعاية جمعية العبيد، من قولهم: فلان ظالم لعبده، وظلام لعبيده، فالصيغة للمبالغة كمًا لا كيفًا.
الرابع:
أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليل ضرورة، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر، كان للظلم القليل المنفعة أترك.
الخامس:
إن المبالغة لتأكيد معنى بديع، وذلك لأن جملة: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}- اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، أي: والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم. والتعبير عن ذلك بنفي الظلم لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم، كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها. وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآيتين‏:

قال رحمه الله‏:
{‏لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ‏}‏‏.‏
روى- في سبب نزول هذه الآية الكريمة‏:‏ قال سعيد بن جُبير عن ابن عباس- رضي الله عنهما- لما نزل قوله تعالى‏:‏ {‏مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏ قالت اليهود‏:‏ يا محمد افتقر ربك، فسأل عباده القرض‏؟‏ فأنزل الله {‏لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ‏}‏‏.‏
والذين عايشوا الإسلام في المدينة كانوا من اليهود‏.‏ واليهود كما نعرف كانوا يَدِلون ويفخرون على العالم بأنهم أهل كتاب وعلم ومعرفة، ويدلون على البيئة التي عاشوا فيها أنهم ملوك الاقتصاد كما يقولون الآن عن أنفسهم‏.‏ كل من يريد شيئًا يأخذه من اليهود‏.‏ وكانوا يبنون الحصون ويأتون بالأسلحة لتدل على القوة‏.‏ وجاء الإسلام وأخذ منهم هذه السيادات كلها، ثم تمتعوا بمزايا الإسلام من محافظة على أموالهم وأمنهم وحياتهم‏.‏
أكان الإسلام يتركهم هكذا يتمتعون بما يتمتع به المسلمون أمنًا واطمئنانًا، وسلامة أبدان وسلامة أموال ثم لا يأخذ منهم شيئًا‏؟‏ لقد أخذ منهم الإسلام الجزية‏.‏ فلم يكن من المقبول أن يدفع المسلم الزكاة ويجلس اليهود في المجتمع الإيماني دون أن يدفعوا تكلفة حمايتهم‏.‏ ولذلك أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سيدنا أبو بكر الصديق الى اليهود في المكان الذي يتدارسون فيه فعن ابن عباس قال‏:‏ دخل ابو بكر الصديق بيت المدراس فوجد من يهود ناسًا كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر يقال‏:‏ أشيع، فقال له أبو بكر‏:‏ ويحك يا فنحاص، اتق الله وأسلم، فوالله أنك لتعلم أن محمدًا رسول الله من عند الله قد جاء بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص‏:‏ والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، أنه إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنّا غنيَّا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا‏.‏ فغضب أبو بكر- رضي الله عنه- فضرب وجه فنحاص ضربا شديدًا، وقال‏:‏ والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدوّ الله فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين‏.‏
فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال‏:‏ يا محمد أبصر ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر؟‏ فقال يا رسول الله‏:‏ إن عدوّا الله قال قولا عظيما، يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجَهه، فجحد فنحاص ذلك وقال‏:‏ ما قلت ذلك‏.‏ فأنزل الله فيما قال فنحاص: {‏لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ‏}‏‏».‏
هؤلاء لم يفطنوا إلى سر التعبير الجميل في قوله سبحانه‏:‏ {‏مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ [‏الحديد‏:‏ 11‏]‏‏.‏
فإن هذا القول هو احترام من الحق سبحانه لحركة الإنسان في التملك‏.‏ لماذا احترم الله حق الإنسان في التملك‏؟‏ هو سبحانه يريد أن يغري المتحرك بزيادة الحركة، ويحمل غير المتحرك على أن يتحرك‏.‏ فإن طلب سبحانه شيئًا من هذا المال فهو لا يقول للإنسان‏:‏ أعطي ما أعطيت لك‏.‏ بل كأنه سبحانه يقول‏:‏ إنني سأحترم عرقك، وسأحترم حركتك، وسأحترم فكرك، وسأحترم جوارحك وطاقاتك وكل ما فيك، فإن أخذتُ منك شيئًا فلن أقول لك أعطني ما أعطيت لك، لكن أقول لك‏:‏ أقرضها لي؛ وإن أقرضتها فسوف تقرضها لا لأنتفع بها، ولكنها لأخيك‏.‏ وقد اقترض من القادر فيما بعد وذلك لك أنت إذا أصابتك الحاجة‏.‏ لماذا لأنني أنا الله الذي استدعيت خلقي إلى الوجود‏.‏ وما دمت أنا الله الذي استدعيت الخلق إلى الوجود فأرزاقهم مطلوبة مني‏.‏
إن الواحد من البشر عندما يدعو اثنين من أصدقائه فهو يصنع طعامًا يكفي خمسة أو عشر أشخاص‏.‏ وما دام الله هو الذي استدعى الخلق إلى الوجود فهو الذي يكفل لهم الرزق‏.‏ وعندما يكفل لهم الرزق فلابد أن يتحركوا‏.‏ وعندما يتحركون فهو سبحانه يضمن آثار الحركة، وذلك حتى ينال كلٌ ما يرضيه، أو على الأقل ما يكفيه من الضروريات‏.‏
ولذلك عندما جاءت آثار الحركة من المال وتدخل البشر فيها تأميمًا وغير ذلك من الإجراءات قلّت الحركة‏.‏ لكن الله سبحانه وتعالى يعلم حرص الإنسان على منفعة نفسه فيغريه بذلك حتى يتحرك وسينتفع المجتمع بحركته، سواء قصد الإنسان أو لم يقصد‏.‏ إذن فحين يقترض الحق سبحانه وتعالى من بعض خلقه لبعض خلقه، فهو سبحانه لا يتراجع فيما وهب‏.‏ بل يقول جل وعلا‏:‏ {‏مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏}‏ [‏الحديد‏:‏ 11‏]‏‏.‏
وأضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- نحن البشر قد نضطر إلى هذا الموقف؛ فالواحد منا عندما يعطي أبناءه مصروف اليد، فكل ابن يدخر ما يبقى منه، وبعد ذلك يأتي ظرف لبعض الأبناء يتطلب مالًا ليس في مُكنْة الوالد ساعة يأتي الحدث‏.‏ فيقول الوالد لأبنائه‏:‏ أقرضوني ما في حصّالاتكم‏، وسأردها لكم مضاعفة، هو أخذها لأخيهم، لكن لأنه الذي وهب أولًا فلم يرجع في الهبة، لكنه طلبها قرضًا‏.‏ وعندما يأتي أول الشهر فهو يرد القرض مضاعفًا، فإن كان ذلك ما يحدث في مجال البشر فما بالنا بما يحدث من الخالق الوهاب لعباده‏؟‏‏.‏
هو سبحانه يقول‏:‏ {‏مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏}‏‏.‏
لكن اليهود لم يأخذ المسألة بهذا الفهم، لكنه أخذها بغباء المادة فقال‏:‏ إن الله فقير ونحن أغنياء‏.‏ لذلك قال الحق سبحانه‏:‏ {‏لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ‏}‏‏.‏
ولماذا يكتب الله ذلك وهو العالم بكل شيء‏؟‏‏.‏ جاء هذا القول ليدل على التوثيق أيضا، فعندما يأتي هذا الرجل ليقرأ كتابه يوم القيامة يجدها مكتوبة؛ فالكتابة لتوثيق ما يمكن أن يُنكر- بالبناء للمجهول- فإذا كان العلم من الله فقط فالعبد قد يقول‏:
إنك يارب الذي تعاقب‏.‏ فلك أن تقول ما تقول‏.‏ فإذا ما كان مكتوبًا عليهم ليقرأوه‏.‏ فهذا توثيق لا يمكن إنكاره‏.‏
ولم يفهم ذلك اليهودي أن القرض لله هو تلطف من الحق سبحانه وتعالى واستدرار لحنان الإنسان على الإنسان‏.‏ فقد شاء الحق أن يحترم أثر مجهودك وعرقك أيها الإنسان، فإن وصلت إلى شيء من المال فهو مالك‏.‏ ولم يقل الله لك‏:‏ أعط أخاك، فسبحانه وتعالى تلطفًا مع خلقه يقول‏:‏ أقرضني؛ ليضمن الإنسان أن ما أعطاه إنما هو عند ملئ‏.‏ لكن أدب بني إسرائيل مع الله مفقود، فقد قالوا من قبل‏:‏ {‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ‏}‏ [‏المائدة‏:‏ 64‏]‏‏.‏
وسبب ذلك أنه أصابتهم سنة وجدب، وذلك بسبب تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إن الله وسع على اليهود في الدنيا حتى كانوا أكثر الناس مالا، فلما عصوا الله وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه ضيّق الله عليهم في زمنه صلى الله عليه وسلم، فقال فنحاص بن عازوراء ومن معه من يهود‏:‏ يد الله مغلولة فأنزل الله هذه الآية‏.‏ إنهم قالوا‏:‏ السماء بخلت علينا ويد الله مغلولة، فلم تعطنا رزقًا‏.‏ وهكذا كان اجترأوا عليه بكلمة أو على أصحابه باستهزاء، فسبحانه يوضح لرسوله‏:‏ أنهم لم يصنعوا ذلك معك ولا مع أتباعك، إن هذا هو موقفهم مني أنا، فإذا كان موقفهم وسوء أدبهم وصل بهم إلى أن يجترئوا على الذات المقدسية العليّة، ويقولون‏:‏ {‏إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ‏}‏ ويقولون‏:‏ {‏يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ‏}‏‏.‏ أفتحزن وتأسى على أن يقولوا لك أو لأتباعك أي شيء يسيء إليكم‏؟‏
إنها نعمت المواساة من الله لرسوله ونعمت التسلية‏.‏ ويضيف الحق‏:‏ {‏سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ‏}‏‏.‏ لماذا يكتب الله ما قالوا مع أن علمه أزلي لا يُنسى‏؟‏
{‏لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى‏}‏ [‏طه‏:‏ 52‏]‏‏.‏
لقد جاءت كلمة {سنكتب} ‏ حتى لا يؤاخذهم سبحانه وتعالى يوم القيامة بما يقول هو إنهم فعلوه، ولكن بما كتب عليهم وليقرأوه بأنفسهم، وليكون حجة عليهم، كأن الكتابة ليست كما نظن فقط، ولكنها تسجيل للصوت وللأنفاس، ويأتي يوم القيامة ليجد كل إنسان ما فعله مسطورًا‏:‏ {‏اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ [‏الإسراء‏:‏ 14‏]‏‏.‏
وهذا القول يدل على أنه ساعة يرى الإنسان ما كتب في الكتاب سيعرف أنه منه، وإذا كنا نحن الآن نسجل على خصومنا أنفاسهم وكلماتهم أتستبعد على من علمنا ذلك أن يسجل الأنفاس والأصوات والحركات بحيث إذا قرأها الإنسان ورآها لا يستطيع أن يكابر فيها أو ينكرها‏؟‏ {‏سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ‏}‏ وهم قالوا‏:‏ {‏إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ‏}‏ وهذا معصية في القمة، وتبجح على الذات العلية، ولم يكتفوا بذلك بل قتلوا الأنبياء الذين أرسلهم الله لهدايتهم؛ لذلك يقول الحق‏:‏ {‏سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ‏}‏‏.‏
وعندما يأتي هذا النبأ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو تسلية له من الحق سبحانه‏.‏ لقد قالوا في ربك يا محمد ما قالوا، وقتلوا الأنبياء إخوانك، فإذا صنعوا معك ما صنعوا فلا تحزن فسوف يُجازَوْن على ما كتبناه عليهم بشهادة أنفسهم، ونقول‏:‏ ذوقوا عذاب الحريق‏.‏ والحريق يصنع إيلامًا إحساسيًا في النفس‏.‏